فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}.
فقال: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ في مَلَكُوتِ السموات والأرض} واعلم أن دلائل ملكوت السماوات والأرض على وجود الصانع الحكيم القديم كثيرة، وقد فصلناها في هذا الكتاب مرارًا وأطوارًا فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال: {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْء} والمقصود التنبيه على أن الدلائل على التوحيد غير مقصورة على السماوات والأرض.
بل كل ذرة من ذرات عالم الأجسام والأرواح فهي برهان باهر، ودليل قاهر على التوحيد، ولنقرر هذا المعنى بمثال.
فنقول: إن الضوء إذا وقع على كوة البيت ظهر الذرات والهباآت، فلنفرض الكلام في ذرة واحدة من تلك الذرات فنقول: إنها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية، وذلك لأنها مختصة بحيز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له، وكل حيز من تلك الأحياز الغير المتناهية، فرضنا وقوع تلك الذرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيز المعين من الممكنات والجائزات، والممكن لابد له من مخصص ومرجح وذلك المخصص إن كان جسمًا عاد السؤال فيه، وإن لم يكن جسمًا فهو الله سبحانه، وأيضًا فتلك الذرة لا تخلو عن الحركة والسكون، وكل ما كان كذلك فهو محدث، وكل محدث فإن حدوثه لابد وأن يكون مختصًا بوقت معين مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده، فاختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه، لابد وأن يكون بتخصيص مخصص قديم فإن كان ذلك المخصص جسمًا عاد السؤال فيه، وإن لم يكن جسمًا فهو الله سبحانه وتعالى، وأيضًا أن تلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجمية.
ومخالفة لها في اللون والشكل والطبع والطعم وسائر الصفات.
واختصاصها بكل تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام، لابد وأن يكون من الجائزات، والجائز لابد له من مرجح، وذلك المرجح إن كان جسمًا عاد البحث الأول فيه، وإن لم يكن جسمًا فهو الله سبحانه، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصانع من جهات غير متناهية، واعتبارات غير متناهية، وكذا القول في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني، مفرداته ومركباته وسفلياته وعلوياته وعند هذا يظهر لك صدق ما قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

وإذا عرفت هذا فحينئذ ظهرت الفائدة لك من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْء} ولما نبه الله تعالى على هذه الأسرار العجيبة والدقائق اللطيفة، أردفه بما يوجب الترغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكر فقال: {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} ولفظة {أن} في قوله: {وَأَنْ عسى} هي المخففة من الثقيلة تقديره: وأنه عسى، والضمير ضمير الشأن، والمعنى: لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار، وإذا كان هذا الاحتمال قائمًا وجب على العاقل المسارعة إلى هذه الفكرة، والمبادرة إلى هذه الرؤية، سعيًا في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم، ولما ذكر تعالى هذه البيانات الجلية والدلائل العقلية قال: {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون} [الأعراف: 185] وذلك لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه التنبيهات الظاهرة والبينات الباهرة، فكيف يرضى منهم الإيمان بغيره.
واعلم أن هذه الآية دالة على مطالب كثيرة:
المطلب الأول: أن التقليد غير جائز ولابد من النظر والاستدلال، والدليل على أن الأمر كذلك قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ}.
والمطلب الثاني: أن أمر النبوة متفرع على التوحيد، والدليل عليه أنه لما قال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أتبعه بذكر ما يدل على التوحيد، ولولا أن الأمر كذلك، لما كان إلى هذا الكلام حاجة.
والمطلب الثالث: تمسك الجبائي والقاضي بقوله تعالى: {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} على أن القرآن ليس قديمًا قالوا: لأن الحديث ضد القديم، وأيضًا فلفظ الحديث يفيد من جهة العادة حدوثه عن قرب، ولذلك يقال: إن هذا الشيء حديث، وليس بعتيق فيجعلون الحديث ضد العتيق الذي طال زمان وجوده، ويقال: في الكلام إنه حديث، لأنه يحدث حالًا بعد حال على الأسماع.
وجوابنا عنه: أنه محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حدوثها.
المطلب الرابع: أن النظر في ملكوت السموات والأرض لا يكون إلا بعد معرفة أقسامها وتفصيل الكلام في شرح أقسامها، أن يقال كل ما سوى الله تعالى، فهو إما أن يكون متحيزًا أو حالًا في المتحيز أو لا متحيزًا، ولا حالًا في المتحيز، أما المتحيز فإما أن يكون بسيطًا، وإما أن يكون مركبًا، أما البسائط فهي إما علوية وإما سفلية، أما العلوية فهي الأفلاك والكواكب، ويندرج فيما ذكرناه العرش والكرسي، ويدخل فيه أيضًا الجنة والنار، والبيت المعمور، والسقف المرفوع واستقص في تفصيل هذه الأقسام، وأما السفلية فهي: طبقات العناصر الأربعة، ويدخل فيها البحار والجبال والمفاوز، وأما المركبات فهي أربعة الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان، واستقص في تفصيل أنواع هذه الأجناس الأربعة، وأما الحال في المتحيز وهي الأعراض، فيقرب أجناسها من أربعين جنسًا، ويدخل تحت كل جنس أنواع كثيرة، ثم إذا تأمل العاقل في عجائب أحكامها ولوازمها وآثارها ومؤثراتها فكأنه خاض في بحر لا ساحل له.
وأما القسم الثالث: وهو أن الموجود لا يكون متحيزًا ولا حالًا في المتحيز، فهو قسمان، لأنه إما أن يكون متعلقًا بأجسام بالتدبير والتحريك، وهو المسمى بالأرواح، وإما أن لا يكون كذلك، وهي الجواهر القدسية المبرأة عن علائق الأجسام.
أما القسم الأول فأعلاها وأشرفها الأرواح الثمانية المقدسة الحاملة للعرش، كما قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية} [الحاقة: 17] ويتلوها الأرواح المقدسة المشارة إليها بقوله سبحانه: {وَتَرَى الملائكة حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} [الزمر: 75] ويتلوها سكان الكرسي، وإليهم الإشارة بقوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض} [البقرة: 255] ويتلوها الأرواح المقدسة في طبقات السموات السبع.
وإليهم الأشارة بقوله: {والصافات صَفَّا فالزجرات زَجْرًا فالتاليات ذِكْرًا} [الصافات: 1 3] ومن صفاتهم، أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
واعلم أن هذا الذي ذكرناه وفصلناه من ملك الله وملكوته كالقطرة في البحر فلعل الله سبحانه له ألف ألف عالم وراء هذا العالم، وله في كل واحد منها عرش أعظم من هذا العرش، وكرسي أعلى من هذا الكرسي، وسموات أوسع من هذه السموات، وكيف يمكن إحاطة عقل البشر بكمال ملك الله وملكوته، بعد أن سمع قوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] فإذا استحضر الإنسان هذه الأقسام في عقله وأراد الخوض في معرفة أسرار حكمته وإلهيته فهم قولهم: {سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] ونعم ما قال أبو العلاء المعري:
يا أيها الناس كم لله من فلك ** تجري النجوم به والشمس والقمر

هنا على الله ماضينا وغابرنا ** فما لنا في نواحي غيره خطر

. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِي آيَاتِهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِمَخْلُوقَاتِهِ فِي أَعْدَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ، أَرَادَ بِذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْيَقِينِ، وَقَوْلًا فِي الْإِيمَانِ، وَتَثْبِيتًا لِلْقُلُوبِ عَلَى التَّوْحِيدِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ؛ قَالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِهِ التَّفَكُّرَ.
قِيلَ لَهُ: أَفَتَرَى الْفِكْرَ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
هُوَ الْيَقِينُ.
وَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ.
فَقَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ عِبَادَةً؛ إنَّمَا الْعِبَادَةُ الْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَالْفِكْرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [حَقِيقَةُ التَّفَكُّرِ]: حَقِيقَةُ التَّفَكُّرِ هُنَا تَرْدِيدُ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ بِالْخَبَرِ عَنْهُ.
وَالْكَلَامُ حَقِيقَةً هُوَ مَا يَجْرِي فِي النَّفْسِ، وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَأَقَلُّ مَا يَحْضُرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْعِلْمِ عِلْمَانِ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا نَسَقُ الْآخَرِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَنَّةَ مَطْلُوبَةٌ، وَأَنَّ الْمُوَصِّلَ إلَيْهَا آكَدُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَحِينَئِذٍ يَجْتَهِدُ فِي الْعَمَلِ؛ وَآكَدُ مِنْ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَلَكُوتِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ؛ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَهِيَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً؛ وَأُمَّهَاتُهَا السَّمَوَاتُ، فَتَرَى كَيْفَ بُنِيَتْ وَزُيِّنَتْ مِنْ غَيْرِ فُطُورٍ وَرُفِعَتْ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَخُولِفَ مِقْدَارُ كَوَاكِبِهَا، وَنُصِبَتْ سَائِرَةً شَارِقَةً وَغَارِبَةً نَيِّرَةً، وَمَمْحُوَّةً؛ كُلُّ ذَلِكَ بِحِكْمَةٍ وَمَنْفَعَةٍ.